السلف في رمضان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئاتأعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم.
وبعد:
رمضان شهر التعبد والتوبة: قال السري السقطي: (السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قُطَّافها).
كان الإمام مالك - رحمه الله - إذا دخل رمضان، نفَر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
وكان بعض السلف يَختم القرآن في قيام رمضان في كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم في كل سَبعٍ؛منهم: قتادة، وبعضهم في كل عشر؛ منهم: أبو الرجاء العطاردي.
وكان الأسود يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان.
وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث، وكانقتادة يختم القرآن في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كلليلٍ.
كيف تقضي شهر رمضان؟ لو تأمَّلنا في حال السلف، وتتبَّعنا كيف كانوا يقضون أيامهم في رمضان، وكيف كانوا يَعمُرونها بصالح الأعمال، لعلِمنا بُعْد المفاز بين ما نحن عليه وما كانوا عليه.
وكلُّ خيرٍ في اتِّباع من سلَف وكلُّ شرٍّ في ابتداعِ مَن خلَف |
فكيف نعيش رمضان كما عاشه السلف؟:
أولاً: مراعاة أحكام الصيام:
فصيام رمضان رُكن من أركان الإسلام، ولا يصح هذا الركن إلا بشرطين اثنين:
اتِّباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، فليس الصيام مجرد جوع عن طعام وشراب، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدَع طعامه وشرابه)).
أخي، فلا يفوتك الإلمام بأحكام الصيام؛ فإنها أساس الصيام، ولا يفوتنك العمل بها؛ فإن العاملين بها قليلٌ.
ثالثًا: الحفاظ على التراويح:
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)).
وفي حديث السائب بن زيد قال: كان القارئ يقرأ بالمئين - يعني: بمئات الآيات - حتى كنا نعتمد على العِصي من طول القيام، قال: وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر.
ومما ينبغي لك أخي الكريم مراعاته: عدم الانصراف قبل الإمام؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قام مع إمامه حتى ينصرِف، كُتِب له قيام ليلة)).
وإن من تمام الإيمان والاحتساب في الصيام: الحرص على القيام، وعدم التضجُّر منه، أو التشاغل عنه في رمضان، لا سيما في زماننا؛ حيث كثُرت أسباب الفتنة، وأصبحت قنوات عدة تتفنَّن في عرض البرامج المُغرية والأفلام والمسلسلات بعد الإفطار مباشرة؛ مما يجعل كثيرًا من الناس عن القيام غافلين، وبما يرونه من مجون ولَهْوٍ مُعجبين.
رابعًا: الإكثار من الذكر وقراءة القرآن:
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل،فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الرِّيح المرسلة.
وكان الزُّهْري إذا دخل رمضان يَفِر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان، ترَك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن، وينبغي لك أخي الكريم أن تقرأه بتدبُّر وخشوع؛ حتى تتذوق ثمرة التلاوة، وأن تَحرِص على الأذكار المأثورة؛ فإنها مقامع الشيطان، وسبيل نَيل رضا الرحمن، لا سيما أذكار الصباح والمساء، والحمد والتسبيح والاستغفار، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَن صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلُع الشمس، ثم صلى ركعتين - كانت له كأجر حجٍّ وعُمرة تامَّة، تامَّة، تامَّة)).
خامسًا: الجُود والصدقة:
وجاء سائل إلى الإمام أحمد، فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفِطره، ثم طوى وأصبح صائمًا.
وكان كثير من السلف يؤثرون بفَطورهم وهم صائمون؛ منهم: عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يُفطر إلا مع اليتامى والمساكين.
سادسًا: الاعتكاف والإكثار من العبادة في العشر الأواخر:
فسُنة الاعتكاف قد ترَكها كثير من الناس القادرين عليها، مع ورودها في الكتاب والسنة، وقد كان السلف أحرصَ على فعْلها والقيام بها؛ لما فيها من الأجر العظيم، ولمناسبتها للعشر الأواخر التي تُلتمَس فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
سابعًا: تحري ليلة القدر والإكثار من الدعاء:
فإن الصوم من أسباب إجابة الدعاء؛ فينبغي للصائم أن يحرص عليه طيلة شهر رمضان، فهو أوسع أبواب الخير وأسهل الطرق إليه، قال- صلى الله عليه وسلم -: ((أعجزُ الناس من عجَز عن الدعاء)).
ولا سيما وأن حِرص المسلم على قيام رمضان يناسب وقته السحر، وهو وقت مبارك تُستجاب فيه الدعوات، وتكفَّر فيه السيئات، وتُقضى فيه الحاجات.
واحذَر أخي الكريم أن يَفوتَك الخير العظيم، والفضل الكريم ليلة القدر، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم منذنبه)).
عن عطاء بن السائب أن أبا عبدالرحمن السُّلَمي قال: "أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلَّموا عشر آيات، لم يجاوزوهنَّ إلى العشر الأُخَر؛ حتى يعلموا ما فيهنَّ، فكنا نتعلم القرآن والعمل به، وسيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز تَراقيهم)).
عن إبراهيم قال: "كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ستِّ ليالٍ.
عن ابن شَوْذب قال: كان عروة بن الزبير يقرأ رُبُع القرآن كلَّ يوم في المصحف نظرًا، ويقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قُطِعت رِجله، وكان وقع فيها الأكلة، فنُشِرت.
قال سلاَّم بن أبي مُطيع: "كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختَم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختَم كلَّ ليلة.
قال أبو بكر بن الحدَّاد: "أخذت نفسي بما رواه الربيع عن الشافعي، أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة، فأكثر ما قدَرتُ عليه تسعًا وخمسين ختمة، وأتيتُ في غير رمضان بثلاثين ختمة".
وكان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم: الصلاةَ، الصلاة، ويتلو: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].
وكان ابن عمر يقرأ هذه الآية: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 9].
قال: ذاك عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال ابن أبي حاتم: وإنما قال ابن عمر ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته، حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة.
وعن عَلقمة بن قيس قال: (بتُّ مع عبدالله بن مسعود ليلة، فقام أول الليل، ثم قام يصلي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيِّه، يرتِّل ولا يُرجِّع، يُسمع مَن حوله، ولا يَرفع صوته، حتى لم يبقَ من الغَلَس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها، ثم أوتَر.
وفي حديث السائب بن زيد قال: (كان القارئ يقرأ بالمئين - يعني بمئات الآيات - حتى كنا نعتمد على العِصي من طول القيام، قال: وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر).
تنبيه:
ينبغي لك أخي المسلم أن تُكمل التراويح مع الإمام؛ حتى تُكتب في القائمين؛ فقد قال: (من قام مع إمامه حتى ينصرف، كُتِب له قيام ليلة)؛ رواه أهل السُّنن.
الصدقة: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وقد قال: "أفضل الصدقة صدقة في رمضان.." [أخرجه الترمذي عن أنس].
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم؛ منهم: عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يُفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علِم أن أهله قد ردُّوهم عنه، فلم يُفطر في تلك الليلة.
وكان من السلف مَن يُطعم إخوانه الطعام وهو صائم، ويجلس بخدمهم ويُروِّحهم؛ منهم: الحسن، وابن المبارك.
قال أبو السوار العدوي: (كان رجال من بني عَدِي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قطُّ وحْده، إن وجد من يأكل معه أكَل، وإلاَّ أخرَج طعامه إلى المسجد، فأكله مع الناس، وأكل الناس معه).
وعبادة إطعام الطعام، ينشأ عنها عبادات كثيرة؛ منها: التودُّد والتحبُّب إلى إخوانك الذين أطعمتهم، فيكون ذلك سببًا في دخول الجنة: ((لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابُّوا).
كما ينشأ عنها مجالسة الصالحين واحتساب الأجْر في معونتهم على الطاعات التي تَقَوَّوْا عليها بطعامك.
تفطير الصائمين: قال: (من فطَّر صائمًا، كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيءٌ)؛ أخرجه أحمد، والنسائي، وصحَّحه الألباني.
وفي حديث سَلمان: (مَن فطَّر فيه صائمًا، كان مغفرة لذنوبه، وعتقَ رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيءٌ)، قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يُفطِّر به الصائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يعطي الله هذا الثواب لمن فطَّر صائمًا على مِذقةِ لبنٍ، أو تمرةٍ، أو شَربة ماءٍ، ومن سقَى صائمًا، سقاه الله من حوضي شَربة لا يَظمَأ بعدها حتى يدخل الجنة).
الاجتهاد في قراءة القرآن: سأذكرك يا أخي هنا بأمرين عن حال السلف الصالح:
أ- كثرة قراءة القرآن.
ب- البكاء عند قراءته أو سماعه خشوعًا وإخباتًا لله - تبارك وتعالى.
كثرة قراءة القرآن: شهر رمضان هو شهر القرآن، فينبغي أن يُكثر العبد المسلم من قراءته، وقد كان من حال السلف العناية بكتاب الله، فكان جبريل يدارس النبي القرآن في رمضان، وكان عثمان بن عفان يختم القرآن كلَّ يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم في كل سبعٍ، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرؤون القرآن في الصلاة وفي غيرها، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وكان قتادة يختم في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان الزُّهْري إذا دخل رمضان يَفِر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترَك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن، وقال ابن رجب: إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضَّلة - كشهر رمضان، والأماكن المفضلة كمكَّةَ لمن دخلها من غير أهلها - فيُستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن؛ اغتنامًا لفضيلة الزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق، وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عملُ غيرهم كما سبَق.
الجلوس في المسجد حتى تطلُع الشمس:
كان النبي إذا صلى الغداة - أي: الفجر - جلس في مصلاه حتى تطلُع الشمس؛ أخرجه مسلم.
وأخرج الترمذي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (مَن صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلُع الشمس، ثم صلى ركعتين - كانت له كأجر حَجة وعُمرة تامَّة، تامَّة، تامَّة)؛ صححه الألباني، هذا في كل الأيام فكيف بأيام رمضان؟
فيا أخي، رعاك الله، استعِن على تحصيل هذا الثواب الجزيل بنوم الليل، والاقتداء بالصالحين، ومجاهدة النفس في ذات الله، وعُلو الهِمة لبلوغ الذِّروة من منازل الجنة.
وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله، فيُخفي ذلك، فإذا كان عند الصباح، رفع صوته كأنه قام تلك الساعة، وعن ابن أبي عَدِي، قال: صام داود بن أبي هند أربعين سنة، لا يعلم به أهله، وكان خرازًا يحمل معه غذاءه من عندهم، فيتصدَّق به في الطريق، ويرجع عشيًّا، فيُفطر معهم.
قال سفيان الثوري: بلغني أن العبد يعمل العمل سرًّا، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه، فيُكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يُحمَد عليه، فيُنسخ من العلانية، فيُثبَت في الرياء.
مع الصحابة في رمضانعبدالله بن عمر:
أيها المستمعون الكرام، ومما يتعلق في هذا الشهر الكريم من مواقف عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - ما ورد في سنن ابن ماجه بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن للصائم عند فطره لدعوة ما تُرَد)، قال ابن أبي مُليكة: سمِعت عبدالله بن عمرو يقول: (إذا أفطر اللهمَّ إني أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيء أن تغفر لي)[1].
وفي سنن الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا تُرَد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يُفطر))[2].
أبو هريرة:أيها المستمعون الكريم، ومما يتعلق من مواقف هذا الصحابي الجليل بهذا الشهر الكريم، موقف يتعلق بحفظ الصيام، فقد روى أبو نُعيم في الحِلية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان وأصحابه إذا صاموا قعَدوا في المسجد، وقالوا: نُطهر صيامنا[3]، يحفظون صيامهم من اللَّغو والرفَث، وقول الزُّور، ومن كل ما يُفسده أو يَنقص أجرَه.
ولكن أيها المستمعون الكرام، ما هو الأمر الذي كانوا يخشونه على أنفسهم، وهم على ما هم عليه من الاستقامة والصلاح؟! لا شك أنهم ما فعلوا ذلك إلا من التقوى والخشية على صيامهم، ولكن كيف هي حال الصائمين في هذا الزمان الذين يَكثُر في مجالسهم اللَّغو وقول الزور، ويتعرضون لكثيرٍ من المُنقصات، بل والمبطلات أحيانًا.
أين هم من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرجه البخاري من حديث صاحبنا في هذه الحلقة أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن لَم يَدَع قول الزور والعملَ به والجهلَ، فليس لله حاجة أن يَدَع طعامه وشرابه))[4].
وموقف آخر يتعلق بالاقتصاد في الإفطار والسَّحور، فعن أبي زياد مولى ابن عباس عن أبي هريرة، قال: كانت لي خمس عشرة تمرة، فأفطرتُ على خمس تمرات، وتسحَّرت بخمسٍ، وبقِيت خمس لفطري[5].
وإن كان هذا الاقتصاد من قلة الطعام، إلا أن أبا هريرة - رضي الله عنه - يخشى من الشِّبَع ويَحذَر عاقبته، فيقول في ذلك: ويلٌ لي مِن بطني، إذا أشبَعته كظَّني، وإذا أجَعته سبَّني، نعم إن مضرة الشِّبَع معروفة، وخاصة في هذا الشهر الكريم؛ لما يُفوِّته على الإنسان من فُرَص الخير والتقرب إلى الله بطاعته.
وموقف أخير في هذه الحلقة يتعلَّق بقيام الليل، فقد كان أبو هريرة - رضي الله عنه - هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثًا، يصلي هذا، ثم يُوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا[6].
فيكون منزله في الليل كله لا يخلو من قائم يصلي، وإن كانت هذه الحال ليست مقصورة على ليالي شهر رمضان، بل إن اجتهاده في شهر رمضان أشد، فهو الراوي لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))[7].
سعد بن معاذ:أيها المستمعون الكرام، ومما يتعلق بهذه الشهر الكريم من مواقف سعد بن معاذ - رضي الله عنه - هو تفطيره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رواه ابن ماجه بسند صحيح عن عبدالله بن الزبير، قال: أفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال: ((أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرارُ، وصلَّت عليكم الملائكة))[8].
أخي المستمع الكريم، في موقف هذه الحلقة نجد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أفطر عند سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وهذا خير جزيل ساقَه الله - سبحانه وتعالى - للصحابي الجليل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - من وجهين:
أما الوجه الأول:
فهو تفطير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو القائل - كما في حديث زيد بن خالد الجُهني - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا يَنقُص من أجر الصائم شيئًا))[9].
فبهذا العمل حصل لسعد بن معاذ - رضي الله عنه - أجرٌ عظيمٌ من صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أتَمُّ الصيام وأكملُه، وأوفره أجرًا.
الوجه الثاني:
دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن معاذ - رضي الله عنه - بهذا الإفطار؛ حيث قال له: ((أفطر عندكم الصائمون، وأكلَ طعامكم الأبرارُ، وصلَّت عليكم الملائكة))، وكم في هذه الدعاء من الخير لسعد بن معاذ - رضي الله عنه؟!
وفي هذا الدعاء ثلاثة أمور:
الأول: دعاء له بأن يُفطر عنده الصائمون، وإفطار الصائمين عنده يقتضي كثرة الأجْر المترتب على فطرهم عنده؛ لأن له مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، وكلما كَثُر إفطار الصائمين عنده، كثُر أجره بالمقابل.
الثاني: الدعاء له بأن يأكل طعامه الأبرار، والأبرار هم القائمون بحقوق الله، وحقوق عباده، الملازمون للبر في أعمال القلوب وأعمال الجوارح[10].
وهذا يترتب عليه كثرة الخير له؛ إما بدعائهم له، أو بما يحصل منهم من العلم والإعانة على الخير، ويحتمل أيضًا أن يكون الذين يأكلون طعامه هم أصحابه، وبهذا يكون أصحابه هم الأبرار، ونعمة الصُّحبة التي تعود عليه بالخير.
الثالث: الدعاء له بصلاة الملائكة عليه، وصلاة الملائكة عليه هي دعاؤهم واستغفارهم له؛ كما في قوله - سبحانه -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
قيس بن صِرْمة:
ما رواه البخاري عن البراء - رضي الله عنه - قال: كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائمًا، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يُفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يُمسي، وإن قيس بن صِرْمة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضر الإفطار، أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلُب لك، وكان يومه يعمل، فغلَبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأَته، قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار، غُشِي عليه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزَلت هذه الآية: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187].
ففرِحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلَت: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: 187] [11].
أيها المسلمون، تدلنا قصة قيس بن صِرْمة أن المسلمين في أول الصيام إذا أفطروا، يأكلون ويشربون ويأتون النساء، مالم يناموا، فإذا ناموا لم يفعلوا من ذلك شيئًا إلى مثلها، وكان المنع من ذلك مقيدًا بالنوم، فكان الرجل إما يبقى مستيقظًا لا ينام من أجْل أن يأكل ويشرب، أو ينام، فتطول عليه مدة الصيام، فتصور أخي المسلم ما في الصيام من المشقة مع هذه الحال، إضافة إلى قلة ما عندهم من الطعام، وما يبذلونه من الجهد في نهار الصيام.
وكان قيس بن صِرْمة - رضي الله عنه - جاء إلى أهله وقت الإفطار بعد جُهد عمل ذلك اليوم، وقد جاء إلى أهله وهو يعلم أنهم لم يُعدوا له أصنافًا من الطعام - كما هي حال الناس اليوم - ولا يريد شيئًا من هذه الأصناف، إنما يريد ما يَسد به جوعه؛ لذا فقد سأل امرأته قائلاً: (أعندك طعام؟)؛ أي: طعام يَسد به جوعه، فقالت: لا، ولكن أنطلق أطلُب لك، ظاهره أنه لا يوجد عندها شيء، ولم يأتِ معه بشيء.
قال ابن حجر: لكن في مرسل السُّدي أنه أتاها بتمرٍ، فقال: استبدلي به طحينًا، واجعليه سخينًا، فإن التمر أحرقَ جوفي، وفيه: لعلي آكله سخنًا، وإنها استبدلته له وصنَعته، وفي مرسل ابن أبي ليلى: فقال لأهله: أطعموني، فقالت حتى أجعل لك شيئًا سخينًا.
ولَمَّا ذهبت امرأة قيس تطلب له الطعام، غلَبته عيناه من شدة التَّعب فنام، فلما جاءته امرأته ورأتْه على هذا الحال قد نام، وحُرِّم عليه الأكل، قالت: (خيبة لك)، والخيبة الحِرمان، يقال: خاب يَخيب إذا لم يَنَل ما طلَب.
وبات قيس طاويًا، وأصبح في نهاره صائمًا، فلما انتصف النهار، غُشِي عليه من الجَهْد، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]، ففرِحوا بها فرحا شديدًا، ونزلت: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: 187].
فكان ذلك رحمة بعباده المؤمنين، وتيسيرًا على الصائمين؛ كما في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
إخواني، لا بد أن نُدرك نعمة الله - سبحانه تعالى - علينا بهذا التيسير الذي يسَّره لنا، ولم تبقَ الحال في الصيام؛ كما هي عليه في أول الأمر، بل شرع لنا ليلة الصيام الأكل والشرب والرفث إلى النساء، حتى يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، بل سنَّ لنا تأخير السَّحور، وتعجيل الفطور تيسيرًا على الصائم، وبمقابل هذه النعمة لا بد أن نشكر الله - سبحانه وتعالى - عليها، والشكر على تيسير الصيام يكون في الحرص على الصيام نفسه، والحرص على إتمامه، وإكماله على الوجه الذي يُرضي المنعم - سبحانه وتعالى.
الموقف الثاني: (أبو ذر):
إخواني، ومما يتعلق بهذا الشهر الكريم من حياة أبي ذر - رضي الله عنه - ما ورد في سنن الترمذي عن أبي ذر قال: صُمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُصلِّ بنا حتى بقِي سبعٌ من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثُلُث الليل، ثم لم يقَم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة، حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله، لو نفَّلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال: ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف، كُتِب له قيام ليلة))، ثم لم يصلِّ بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، وصلى بنا في الثالثة، ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تَخوَّفنا الفلاح، قلت له: وما الفلاح؟ قال: السَّحور))[12].
إخواني نجد في حديث أبي ذر (رضي الله عنه) أن رسول الله ص قام بهم في بعض ليالي العشر الأخير من رمضان، فقام بهم ليلة حتى ذهب ثلث الليل، وقام ثانية حتى ذهب شطر الليل أي نصفه، وقام بهم ثالثة حتى آخر الليل، وهذا فيه مشروعية قيام ما تيسر من الليل في رمضان.
ومما يدل عليه هذا الحديث ذلك الفضل العظيم للذي يقوم مع الإمام حتى ينصرف، فهذا يكتب له قيام ليلة، فعلى المسلم الحرص على هذا الفضل العظيم الذي هيَّأه الله - سبحانه وتعالى - له، ولنتصور قدر المشقة التي تلحق الإنسان لو قام الليل كله من أول إلى آخره، ولكن أجر قيام الليل كله الذي يقابل هذه المشقة، يحصل لمن قام مع الإمام حتى ينصرف، فنسأل المولى - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا له، وأن يُعيننا على أنفسنا، وأن يُعيذنا من العجز والكسل.
ومن زُهده - رضي الله عنه - ما رواه جعفر بن سليمان، قال: دخل رجل على أبي ذر، فجعل يُقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ قال: لنا بيت نُوجِّه إليه صالِح متاعنا، قال: إنه لا بد لك من متاع ما دُمت ها هنا، قال: إن صاحب المنزل لا يَدَعنا فيه[13].
الموقف الثالث: (زيد بن ثابت):
إخواني، ومن المواقف المتعلقة بهذا الشهر الكريم من حياة زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ما ورد في صحيح البخاري عن أنس عن زيد ثابت - رضي الله عنه - قال: ((تسحَّرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسَّحور، قال: قدر خمسين آية))[14].
ففي هذا الحديث أخبر زيد - رضي الله عنه - أنه تسحَّر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام إلى الصلاة، فلو تأمَّلنا سبب سَحور زيد بن ثابت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاصة أن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ما كان ينام عند رسو الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يكون سَحوره عارضًا، بل كان مقصودًا، وأن السبب في ذلك من أجل أن يتعلم الهدي في السَّحور فيما يتعلق بوقته والسنة فيه.
ويدل على ذلك سؤال أنس بن مالك - رضي الله عنه - لزيد بن ثابت - رضي الله عنه -: كم كان بين الأذان والسَّحور؟ وقد ورد الحديث بألفاظ أخرى، فعند البخاري في موضع آخر: عن قتادة أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت - رضي الله عنه - تسحَّرا، فلما فرَغا من سَحورهما، قام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة فصلى، فقلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سَحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: كقدر ما يقرأ الرجل خمسين آية))[15].
فهذه الروايات تدل على استحباب تأخير السَّحور، وفي هذا دليل على حرص السلف على تعلُّم الهدي النبوي، فقتادة سأل أنسًا، فتعلم منه، وأنس سأل زيد بن ثابت، وتعلَّم منه، وزيد تعلَّمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
إخواني، لا بد أيضًا أن نتأمَّل جواب زيد بن ثابت - رضي الله عنه - عن سؤال أنس بن مالك - رضي الله عنه - حيث قال: (قدر خمسين آية)؛ أي: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية متوسطة لا طويلة ولا قصيرة، ولا سريعة ولا بطيئة، هذا الجواب فيه قياس للزمن بعمل البدن، وكان العرب يستعملون ذلك، كقولهم: قدْر حَلْب شاةٍ، أو قدر نَحْر جَزورٍ ونحوها، ولكن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قاسه بأمر مرتبط بالعبادة، وفي ذلك تميُّز في حياة المسلم، والتخصيص بالقراءة فيه إشارة إلى أن ذلك الوقت وقت عبادة وتلاوة؛ قال ابن أبي جَمرة: فيه إشارة إلى أن أوقاتهم كانت مستغرقة بالعبادة.
إخواني، في هذا الموقف حثٌّ على جوانبَ كثيرة من الخير، ففيه تناول طعام السحور والاجتماع عليه، ولا سيما مع أهل العلم والفضل الذين ينتفع الإنسان من صُحبتهم ومُجالستهم، وكذلك في الحث على تأخير السَّحور، فهو أرفقُ للصائم، وأدعى لحضور صلاة الصُّبح مع جماعة المسلمين، وفيه أيضًا اغتنام الفرصة بين السَّحور، وإقامة الصلاة فيما يقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - وخاصة بقراءة القرآن.
[1] كتاب الصيام، حديث رقم 1753، وقال في الزوائد: إسناده صحيح.
[2] سنن الترمذي، كتاب صفة الجنة، حديث رقم 2525، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم 2050.
[3] أبو نُعيم؛ حلية الأولياء 1/382.
[4] الجامع الصحيح، كتاب الأدب، حديث رقم 6057.
[5] أبو نعيم؛ حلية الأولياء 1/384.
[6] ابن الجوزي؛ صفة الصفوة 1/692.
[7] أخرجه البخاري؛ الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، حيث رقم 37.
[8] أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الصيام، حديث رقم 1747، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه حديث رقم 1417.
[9] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الصيام، حديث رقم 807. وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 6291.
[10] تفسير ابن سعدي 7/584.
[11] الجامع الصحيح، كتاب الصوم، حديث رقم 1915.
[12] سنن الترمذي، كتاب الصوم، حديث رقم 806، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم 646.
[13] المرجع السابق 1/595.
[14] الجامع الصحيح، كتاب الصيام، حديث رقم 1921.
[15] الجامع الصحيح، كتاب المواقيت، حديث رقم 576.